فصل: باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله:

هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله.
أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها.
والغلو: مجاوزة الحد مدحًا أو ذمًا، والمراد هنا مدحًا.
والقبور لها حق علينا من وجهين:
1- أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام، فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
2- أن لا نغلو فيها فتتجاوز الحد.
وفي (صحيح مسلم) قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته)، وفي رواية: (ولا صورة إلا طمستها).
والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور، فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن، إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.
قوله: (الصالحين)، يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.
قوله: (أوثانًا)، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل، فيكون الوثن أعم.
ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثنًا، وإن لم يكن على تمثال نصب، لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.
قوله: (تعبد من دون الله)، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله، لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإن قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».
روى مالك في (الموطاء)، أن رسول الله قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
قوله: (في الموطأ)، كتاب مشهور من اصح الكتب، لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول، وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضًا كلام وبحث للإمام مالك نفسه.
وقد شرحه كثير من أهل العلم، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: (التمهيد) لابن عبد البر، وهذا- أعني: (التمهيد)- فيه علم كثير.
قوله: (اللهم)، أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.
قوله: «لا تجعل قبري وثنًا بعيدًا»، لا: للدعاء، لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: (قبري)، والثاني: (وثنًا).
وقوله: (يعبد)، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة، لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله.
وإنما سأل النبي ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
قوله: (اشتد)، أي: عظم.
قوله: (غضب الله)، صفة حقيقية ثابتة لله- عز وجل- لا تماثل غضب المخلوقين لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه، لأن النبي لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه، لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسًا، وحاشاه أن يكون كذلك، فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام، فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:
1- غضب المخلوق حقيقته هو: غليان دم القلب، وجمرة ويلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق، فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11].
2- أن غضب الآدمي يؤثر آثارًا غير محمودة، فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله، فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله.
فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك، فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان، لأن الغضب يدل على القدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه، فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.
ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55].
فإن معنى: {آسفونا}: أغضبونا، فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرًا مترتبًا عليه، فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.
واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله، فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة، فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل.
قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، أي: جعلوها مساجد، إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها، فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه بأن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟
الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له، فلم يذكر أن قبره جعل وثنًا، بل إنه حمي بثلاثة جدران، فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنًا يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثنًا.
قال ابن القيم في (النونية):
فأجاب رب العالمين دعاءه ** وأحاطه بثلاثة الجدران

صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنًا، ولكن قد يعبدون الرسول ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له بدعائه عند قبره، فيكون قد اتخذه وثنًا، لكن القبر نفسه لم يجعل وثنًا.
ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهد: {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم: 19].
قوله: (ولابن جرير)، هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير، توفي سنة 310هـ.
وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر، ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر.
فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض.
وليس جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم، علم ذلك.
وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائمًا يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية، فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع، فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه، لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.
والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره، لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ: (تفسير الكشاف) للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون، لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.
قوله: (عن سفيان)، إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم، والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح- أعني (تيسير العزيز الحميد) يقول: الظاهر أنه الثوري.
قوله: (عن مجاهد)، هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: (عرضت المصحف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، فما تجاوزت آية إلا وقفت عندها أسأله عن تفسيرها).
قوله: {أفرأيتم}، الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى... إلخ.
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}، قال: {أفرأيتم اللات والعزى}، أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي ليلة المعراج.
قال: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره).
قوله: {اللات}، (كان يلت لهم...) إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت، فهو لات.
أما على قراءة التخفيف، فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام، أي: حذف منها التضعيف تخفيفًا.
وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله.
وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات، عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلهًا، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة، فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد، فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق.
وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه، فصار الغلو في القبور يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله.
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهي عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفًا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، وكان الرسول يأمر إذا بعث بعثًا: بأن لا يدعو قبراَ مشرفًا إلا سووه، لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور، فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: (السويق)، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.
وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباسٍ: (كان يلت السويق للحاج).
وقوله: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره)، يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلهًا مع الله.
قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج)، والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وان العباس أيضًا يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذًا يحليه زبيبًا أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج غاية الاستغلال- والعياذ بالله-، حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالًا بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم، لأن الله تعالى يقول: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25]، فكيف بمن يفعل الإلحاد؟!
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج». رواه أهل السنن.
قوله: (لعن)، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى (لعن رسول الله)، أي: دعا عليهم باللعنة.
قوله: (زائرت القبور)، زائرت: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع:
منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.
ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك.
وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: «لعن رسول الله زوارات القبور»، بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: «والمتخذين عليها المساجد»، هذا الشاهد من الحديث، أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد له صورتان:
1- أن يتخذها مصلى يصلى عندها.
2- بناء المساجد عليها.
قوله: (والسرج)، جمع سراج، توقد عليها السرج ليلًا ونهارًا تعظيمًا وغلوًا فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب، لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
* المناسبة للباب:
إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها، فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.
مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: (زائرات القبور)، والجملة الثانية (المتخذين عليها المساجد والسرج)؟
الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفًا على صاحب القبر، فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما لو وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها؟.
الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه، فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله، فقد يقال بجوازه، لأنها لا تسرج إلا بالليل، فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.
ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقًا للأسباب الآتية:
1- أنه ليس هناك ضرورة.
2- أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك، فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجًا معهم.
3- أنه إذا فتح هذا الباب، فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت، فمن الذي يتولى قفل هذه الإضاءة؟
الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج، فالذي نرى أنه يمنع نهائيًّا.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه، فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد، فهذا نرجوا أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادًا عظيمًا، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة، فالمسألة ليست هينة.
وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وأنها من كبائر الذنوب، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب، لهذا الحديث.
القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه، لحديث أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا).
القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور، لحديث المرأة: التي مر النبي بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: «اتقي الله واصبري». فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فانصرف الرسول عنها، فقيل لها: هذا رسول الله. فجاءت إليه تعتذر، فيم يقبل عذرها، وقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، فالنبي شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر.
ولما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لها ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج مختفيًا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر، فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين...» إلخ.
قالوا: فعلمها النبي دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز.
ورأيت قولًا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال، لقوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة»، وهذا عام للرجال والنساء.
ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة، أليس النبي قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك.
وهذا دليل على أنه منسوخ.
والصحيح القول الأول، ويجب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح، فمن ذلك:
أولًا: دعوى النسخ غير صحيحة، لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
1- تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر، لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول- وهو الصحيح-، فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول قد خص النبي النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجال فقط، لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضًا مما يبطل النسخ قوله: «لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»، ومن المعلوم أن قوله: «والمتخذين عليها المساجد والسرج»، لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد، فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكمًا غير منسوخ.
2- العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ، لأن النبي لم يقل: كنت لعنت من زار القبور: بل قال: (كنت نهيتكم)، والنهي دون اللعن.
وأيضًا قوله: (كنت نهيتكم) خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء، فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذًا، فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.
وثانيًا: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة، أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعًا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئًا عظيمًا لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها أن تصبر، لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحًا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحًا، فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.
وأما حديث عائشة، فإنها قالت للرسول: ماذا أقول؟ فقال: «قولي: السلام عليكم»، فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل، فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة، إذا من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحًا، فلا يعارض الصريح.
وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما، فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقًا، لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور، لكنا ننظر بماذا ستجيبه.
فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عامًا، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم، فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول، على أنه روي عنها، أنها قالت: «لو شهدتك ما زرتك»، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له، لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الرواية الأولى الصحيحة، إذا ليس فيها دليل على أن الرسول نسخه، وإذا فهمت هي، فلا يعارض بقولها قول الرسول.
* إشكال وجوابه:
في قوله: (زوارات القبور) ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن (زوارات) صيغة مبالغة.
الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك، فإننا أضعنا دلالة المطلق (زائرات).
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لأن على كثرة الفعل، فـ: (زوارات) يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرًا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} [ص: 50]، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف، إذا الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضًا قراءة: {حتى إذا جاؤوها وفتحت} [الزمر: 73]، فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.
وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (343/24).
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة.
* الأولى: تفسير الأوثان، وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنمًا أو قبرًا أو غيره.
* الثانية: تفسير العبادة، وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفًا ورجاء ومحبة وتعظيمًا، لقوله: «لا تجعل قبري وثنًا يعبد».
الثالثة: أنه لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
* الثالثة: أنه لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد».
* الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذلك في قوله: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
* الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله، تؤخذ من قوله: «اشتد غضب الله».
وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها.
وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: «إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله قبله ولا بعده».
* السادسةـ وهي من أهمها-: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان: وذلك في قوله: (فمات، فعكفوا على قبره).
* السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح، تؤخذ من قوله: (كان يلت لهم السويق)، أي: للحجاج، لأنه معظم عندهم، والغالب لا يكون معظمًا إلا صاحب دين.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنه زوارات القبور. العاشرة: لعنة من أسرجها.
* الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق.
* التاسعة: لعنة زوارات القبور، أي: النبي، وذكر رحمه الله لفظ: (زوارات القبور) مراعاة للفظ الآخر.
* العاشرة: لعنة من أسرجها، وذلك في قوله: (والمتخذين عليها المساجد والسرج).
وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك، فله وجه.
مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه.
والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها أن المرأة يجوز لها قصد الزيارة، فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي يبلغه حيث كان.